فصل: تفسير الآيات (66- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (61):

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولو يُؤاخذ اللهُ الناسَ بظلمهم} أي: بكفرهم ومعاصيهم الصادرة من بعضهم، {كما ترك عليها} أي: على الأرض {من دابة}: نسمة تدب عليها، بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود: (كاد الجُعَل يهلك في جُحره بذنب ابن آدم). وقيل: لو هلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء، {ولكن يُؤخرهم إلى أجل مسمى} سماه لأعمارهم، أو لعذابهم، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون} عنه {ساعة ولا يستقدمون} عليه، بل يهلكون، أو يُعذبون حينئذ لا محالة، فالحكمة في إمهال أهل الكفر والمعاصي؛ لئلا يعم العذاب، كقوله: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25]، و«لعل الله تعالى يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله». والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن الله يهم أن ينزل إلى أهل الأرض عذابًا؛ لما يرى فيهم من كثرة الظلم والفجور، فإذا رأى حِلَق الذكر ومجالس العلم رفع عنهم العذاب. وفي بعض الأخبار: «لَوْلاَ شُيوخٌ ركع، وصِبْيَانٌ رُضَّعٌ، وبَهَائمُ رُتَّعٌ، لصُبَّ عَليكُمُ العَذَابُ صَبًّا».

.تفسير الآية رقم (62):

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}
قلت: {أن لهم الحسنى}: بدل من {الكذب}، ومن قرأ {مفرطون}؛ بالكسر، فاسم فاعل من الإفراط، وهو: تجاوز الحد، ومن قرأها بالفتح؛ فاسم مفعول، من أفرط في طلب الماء، إذا قدمه. ومن قرأ بالتشديد؛ فمن التفريط.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويجعلون لله ما يكرهون} لأنفسهم من البنات، والشركاء في الرئاسة وأراذل الأموال، {وتصف ألسنتُهُم الكذبَ} مع ذلك، وهو {أن لهم الحسنى} عند الله، وهي الجنة. وهذا كقوله: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فُصّلت: 50]. قال تعالى: {لا جَرَمَ أنَّ لهم النارَ} أي: لا شك، أو حقًا أن لهم النار، {وأنهم مُفْرَطُون}؛ مقدّمون إليها، أو متركون فيها، أو مفرطون في المعاصي والظلم، متجاوزون الحد في ذلك. أو مفرطون في الطاعة؛ من التفريط.
الإشارة: الواجب في حق الأدب أن ما كان من الكمالات ينسب إلى الله تعالى، كائنًا ما كان، وما كان من النقائص ينسب إلى العبد، وإن كان، في الإيجاد والاختراع، كل من عند الله، وهو بهذا الاعتبار في غاية الحسن.
كما قال صاحب العينية رضي الله عنه:
وكُلُّ قَبِيحٍ إِنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِه ** أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ

يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالهُ ** فَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ

.تفسير الآيات (63- 64):

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
قلت: {وهدى ورحمة}: معطوفتان على {لتبين}، وانتصبا على المفعولية من أجله، أي: لأجل البيان والهدى والرحمة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {تالله لقد أرسلنا} رسلاً {إلى أمم من قَبلكَ} يا محمد، {فزَيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم} السوء، فرأوها حسنة، فأسروا على قبائحها، وكذبوا الرسل، فصبروا حتى نُصروا. فاصبر كما صبروا، حتى تنصر كما انتصروا. فكان عاقبة من اتبع الشيطان الهلاك والوقوع في العذاب، {فهو وليّهم} أي: متولي أمورهم {اليومَ} في الدنيا، {ولهم عذاب أليم} في الآخرة، أو: فهو وليهم يوم القيامة، على أنه حكاية حال آتية، أي: لا ولي لهم غيره في ذلك اليوم، وهو عاجز عن نصر نفسه، فكيف ينصر غيره؟ {وما أنزلنا عليك الكتاب}: القرآن {إلا لتُبين لهم}: للناس {الذي اختلفوا فيه}؛ من التوحيد، والقَدَر، وأحوال المعاد، وأحكام الأفعال، {وهُدًى ورحمةً لقوم يؤمنون} به، فإنهم المنتفعون بإنزاله.
الإشارة: كل من وقف دون الوصول إلى مشاهدة الحق، فهو مُزين له في عمله، مُستدرج به وهو لا يشعر، وحظه يوم القيامة الندم والأسف. وفي ذلك يقول أبو المواهب:
مَنْ فَاَتَهُ مِنْكَ وَصلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ ** وَمَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ

ونَاظِرٌ في سِوَى مَعْنَاكَ حُقَّ لُه ** يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِهِ بالدَّمْعِ وهْوَ دَمُ

والسَّمْعُ إنْ جَالَ فِيهِ مَنْ يُحَدِّثهُ ** سِوَى حدَيثِك أَمْسَى وَقرَهُ الصَّمَمُ

فهذه علامات الوصول إلى الحق، بحيث ترتفع همته إلى حضرة الحق، ويصرف نظره في معاني أسرار التوحيد، وسمعه فيما يقرب إلى صريح التفريد، ومن لم يبلغ هذا المقام، لم ينقطع عنه تزيين الشيطان، فيُزين له عمله، فيقف معه. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (65):

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والله أنزل من السماء ماءً}؛ مطرًا {فأحيا بِهِ الأرض بعد موتها}؛ أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها، فكانت هامدة غبْراءٍ، غير منبتة، شبيهة بالميت، فصارت، بعد إنزال المطر، مخضرة مهتزة رابية شبيهة بالحي. {إن في ذلك لآيةً لقوم يسمعون} سماع تدبر وإنصاف؛ فإن هذه الآية ظاهرة، تُدرك بأدنى تنبيه وسماع، غير محتاجة إلى كثرة تفكر واعتبار.
الإشارة: والله أنزل من سماء الغيوب ماء العلوم النافعة، فأحيا به أرض النفوس الميتة بالغفلة والجهل، فصارت مبتهجة بأنوار التوحيد وأسرار التفريد، وفي ذلك يقول الشاعر:
إنَّ عرفَان ذي الجلال لعزٌ ** وضياءٌ وبهجة وسُرور

وعلى العارفين أيضًا بَهَاءٌ ** وعليهمْ من المحبَّة نُور

فَهنيئًا لمن عرفك إلهي ** هو والله دهرَه مسرورُ

.تفسير الآيات (66- 67):

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}
قلت: سقى وأسقى: لغتان، على المشهور. والضمير في {بطونه}: للأنعام، وذكِّره باعتبار ما ذكر، كقوله: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عَبَسَ: 11، 12]، أو: باعتبار الجنس، وعَدَّه سيبويه في المفردات المبنية على: أفعال، كأخلاق وأكباش، فهو، عنده، اسم جمع، كقولم ورهط، فلفظه مفرد ومعناه جمع، فذكَّره هنا؛ مراعاة للفظه، وأنثه، في سورة المؤمنين؛ مراعاة لمعناه. ومن قال: إنه جمع نعَم، جعل الضمير للبعض؛ فإن اللبن لبعضها دون جميعها.
ومن في قوله: {مما}؛ للتبعيض، و{من بين فرث}؛ لابتداء الغاية، و{من ثمرات}: يتعلق بمحذوف، أي: ونسقيكم من ثمرات النخيل، يدل عليه {نُسقيكم} الأول. و{تتخذون}: استئناف لبيان الإسقاء، أو يكون {ثمرات}: عطفًا على {مما في بطونه}، أو يتعلق {من ثمرات} بتتخذون، أي: تتخذون من ثمرات النخيل سَكَرًا. وكرر {منه} للتأكيد، أو يكون {تتخذون}: صفة لمحذوف، أي: شيء تتخذون منه سكرًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإنّ لكم} أيها الناس، {في الأنعام} وهي: الإبل والبقر والغنم، {لعبرةً} ظاهرة تدل على كمال قدرته، وعجائب حكمته، وهي أنا {نُّسْقيكم مما في بطونه} أي: بعض ما استقر في بطونه من الغذاء، {من بين فَرْثٍ}؛ وهو ما في الكرش من القذر، {ودمٍ}؛ وهو ما تولد من لباب الغذاء، {لبنًا خالصًا} من روائح الفرث، صافيًا من لون الدم. والمعنى: أن الله يخلق اللبن متوسطًا بين الفرث والدم يكتنِفَانِه، ومع ذلك فلا يُغير له لونًا ولا طعمًا ولا رائحة. وعن ابن عباس: إن البهيمة إذا اعتلفت، وانطبخ العلف في كرشها، كان أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا، وأعلاه دمًا. ثم وصفه بقوله: {سائغًا للشاربين}؛ سهل المرور في حلقهم، حتى قيل: لم يغصَّ أحدٌ قَط من اللبن. ورُوِيَ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{و} نُسقيكم، أيضًا، {من ثمرات النخيلِ والأعنابِ} أي: من عصيرهما. ثم بيَّن كيفية الإسقاء فقال: {تتخذون منه} أي: مما ذكر {سَكَرًا} يعني: الخمر، سميت بالمصدر، ونزل قبل تحريم الخمر، فهي منسوخة بالتحريم. وقيل: هي على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر، ولا تعرُّض فيها لتحليل الخمر ولا تحريم، وهذا هو الصحيح. وفي دعوى النسخ نظر؛ لأن النسخ إنما يكون في الأحكام المشروعة المقررة، وهنا ليس كذلك، إنما فيه امتنان واعتبار فقط. {و} تتخذون من ثمراتها {رزقًا حسنًا}؛ كالتمر، والزبيب، والدبْس- وهو ما يسيل من الرطب-، والخلُّ، والربُّ، وقيل: السَّكَرُ: المائع من هاتين الشجرتين؛ كالخل، والرُّب، والرزق الحسن: العنب والتمر. {إنَّ في ذلك لآية} دالة على كمال قدرته تعالى، {لقوم يعقلون}؛ يستعملون عقولهم بالتأمل، والنظر في الآيات.
الإشارة: كما استخرج الحق، جلّ جلاله، من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، استخرج مذهب أهل السنة، القائلين بالكسب، من بين مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة، بين قوم أفرطوا، وقوم فرطوا.
واستخرج أيضًا مذهب الصوفية- أعني: المحققين منهم- من بين الواقفين مع ظاهر الشريعة والمتمسكين بمجرد الحقيقة، بين قوم تفسقوا وقوم تزندقوا، بين قوم وقفوا مع عالم الحكمة، وقوم وقفوا مع شهود القدرة من غير حكمة، وهو، إن لم يكن عن غلبة سُكْرٍ، كُفْرٌ. واستخرج، أيضًا، مذهب أهل التربية من بين سلوك محض وجذب محض، فاهل السلوك المحض محجوبون عن الله، وأهل الجذب المحض غائبون عن طريق الله، وأهل التربية برزخ بين بحرين، الجذب في بواطنهم، والسلوك على ظواهرهم. ولا يعرف هذا إلا من شرب مشربهم، قد أخذوا من ثمرات نخيل الشرائع وأعناب الحقائق، سَكَرًا في قلوبهم، بشهود محبوبهم، ورزقًا حسنًا؛ معرفة في أسرارهم، وعبودية في ظواهرهم، فصاروا جامعين بين جذب الحقائق وسلوك الشرائع، كل واحد في محله. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (68- 69):

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
قلت: {أن اتخذي}: مفسرة للوحي الذي أوحي إلى النحل، أو مصدرية، أي: بأن اتخذي. و{من}: للتبعيض في الثلاثة مواضع، {ثم كُلِي}: عطف على {اتخذي}. و{من}: للتبعيض؛ لأنها لا تأكل من جميع الشجر، وقيل: من كل الثمرات التي تشتهيها، فتكون للبيان. و{ذُللاً}: حال من السبل، أو من الضمير في {اسلكي}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأوْحَى ربك إلى النحل} أي: ألهمها، وقذف في قلوبها ذلك. والوحي على ثلاثة أقسام: وحْيُ إلهام، ووحيُ منام ووحْيُ أحكام. وقال الراغب: أصل الوحي: الإشارة السريعة، إما بالكلام؛ رمزًا، وإما بصوت مجرد عن التركيب، أو بإشارة ببعض الجوارح، والكناية. ويقال للكلمة الإلهية التي تُلقى إلى الأنبياء: وحي، وذلك أضْرُبٌ؛ إما برسول مشاهَد، وإما بسماع كلام من غير معاينة، كسماع موسى كلام الله، وإما بإلقاءٍ في الروع، وإما بإلهام، نحو: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القَصَص: 7]، وإما تسخير، كقوله: {وأوحى ربك إلى النحل}، أو بمنام، كقوله صلى الله عليه وسلم: «انقطع الوحي، وبقي المبشرات؛ رؤيا المؤمن»
ثم بيَّن ما أوحي إليها فقال: {أنِ اتخذي}، أو بأن اتخذي {من الجبال بيوتًا} تأوين إليها، كالكهوف ونحوها، {ومن الشجر} بيوتًا، كالأجْبَاح ونحوها، {ومما يَعرِشُون} أي: يهيئون، أو يبنون لك الناس من الأماكن، وإلا لم تأو إليها. وذكرها بحرف التبعيض؛ لأنها لا تُبنى في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش؛ من كرْم أو سقف، ولا في كل مكان منها. وإنما سمي ما تبنيه، لتتعسل فيه، بيتًا؛ تشبيهًا ببناء الإنسان؛ لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسْمة، التي لا يقوى عليها حُذَّاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة. ولعل ذكره: للتنبيه على ذلك. قاله البيضاوي. قلت: وليس للنحل فعل في الحقيقة، وإنما هو صنع العليم الحكيم في مظاهر النحل.
ثم قال لها: {ثم كُلِي من كل الثمرات} التي تشتهيها، حلوها ومرها. قيل: إنها ترعى من جميع النوار إلا الدفلة. {فاسْلُكي} أي: ادخلي {سُبل ربك}؛ طُرقه في طلب المرعى، أو: فاسلكي؛ راجعة إلى بيوتك، سبلَ ربك، لا تتوعر عليك ولا تلتبس. وأضافها إليه؛ لأنها خلقه وملْكه. {ذُللاً}: مطيعة منقادة لما يراد منك، أو اسلكي طرقَه؛ مذللة مسخرة لكِ، فلا تعسر عليك وإن توعرت، ولا تضل عن العْود منها وإن بَعُدت. قال مجاهد: لم يتوعَّر على النحل قط طريق.
{يخرجُ من بطونها شرابٌ} وهو العسل، عَدل عن خطاب النحل إلى خطاب الناس: لأنه محل الإنعام عليهم، والمقصود من خلق النحل وإلهامه؛ لأجلهم. وسماه شرابًا؛ لأنه مما يشرب. وظاهر الآية أن العسل يخرج من بطون النحل، وهو ظاهر كلام سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تحقيره للدنيا، قال: (أشرف لباس ابن آدم فيها نفثة دود، وأشرف شراب فيها رجيع نحلة- أو قيء نحلة-، وأشرف لذة فيها مَبَال في مبال).
وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل. قاله ابن عطية. قلت: والذي ألفيناه، ممن يتعاطاهم، أنه يخرج من دبرهم.
وقوله: {مختلفٌ ألوانه} أي: أبيض، وأحمر، وأسود، وأصفر، بحسب اختلاف سن النحل، ومراعيها. وقد يختلف طعمه ورائحته باختلاف مرعاه. ومنه قول عائشة للنبي- عليه الصلاة والسلام-: «جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ» وهو نبت مُنتن الرائحة، شُبهت رائحته برائحة المغافير.
ثم قال تعالى: {فيه شفاء للناس}؛ إما بنفسه، كما في الأمراض البلغمية، أو مع غيره، كما في سائر الأمراض، إذ قلما ما يكون معجون إلا والعسل جزء منه. قاله البيضاوي. قال السيوطي: قيل: لبعضها، كما دل عليه تنكير شفاء، أو لكلها بضميمةٍ إلى غيره- أقول: وبدونها، بنية- وقد أمر به صلى الله عليه وسلم من استطلق بطنه، رواه الشيخان. اهـ. قال ابن جزي: لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل؛ كالمعاجن، والأشربة النافعة من الأمراض. وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء، فكأنه أخذه من العموم. وعلى ذلك يدل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً جاء إليه فقال: أَخي يَشْتَكِي بَطْنَهُ، فقال: «اسْقِهِ عَسَلاً»، فَذَهَب ثُمَ رَجَع، فقال: قَدْ سَقَيْتُهُ فَما نَفعَ، قال: «فاذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلاً، فَقَدً صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»، فَسَقَاهُ فشفاه الله عزّ وجلّ.
{إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}؛ فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر، عَلِمَ، قطعًا، أنه لابد له من قادر مدبر حكيم، يلهمها ذلك ويحملها عليه، وهو الحق تعالى.
الإشارة: إنما كان العسل فيه شفاء للناس؛ لأن النحل ترعى من جميع العشب، فتأخذ خواص منافعها. وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء، فإذا كان بهذه المنزلة، كان فيه شفاء للقلوب، كل من صحبه، بصدق ومحبة، شفاه الله، وكل من رآه، بتعظيم وصدق، أحياه الله. وقد قالوا في صفة العارف: هو الذي يأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ النصيب منه شيئًا، يصفو به كدر كل شيء، ولا يكدر صفوه شيء، قد شغله واحد عن كل شيء، ولم يشغله عن الواحد شيء... إلى غير ذلك من نعوته. وقال الورتجبي: قال أبو بكر الوراق: النحلة لَمَّا تبعت الأمر، وسلكت سبيلها على ما أمرت به، جعل لعابها شفاء للناس، كذلك المؤمن، إذا اتبع الأمر، وحفظ السر، وأقبل على مولاه، جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق، ومن نظر إليه اعتبر، ومن سمع كلامه اتعظ، ومن جالسه سعد. اهـ.